الاثنين، 19 أغسطس 2013

جسد اغتيال في انبعاثة ميّته





تنبعث أشعّة الشّمس الدّافئة عبر زجاج نافذته المهترئة، فيصله خيط منكسر من شعاعها إلى الزّاوية الّتي تسمّر عليها حزنه، كان نائما و رأسه على الطّاولة يتوسّد الجرائد القديمة الّتي مضغت حادثة انتحار زوجته دون أسنان شهرا كاملا بلا رحمة، فراحت تزيد و تفنّد أبوابا أخرى للوقائع إن صحّ تسميتها كذلك، إلى أن أغلق ملفّها النّسيان لعدم وجود دلائل كافية. كانت يده تحمل علبة الثّقاب كما لو أنّه قرّر فجأة أن يسلّم بالقصص الملفّقة لفقيدته الّتي هام بها و هامت به حتّى أنشأ فيهم سكان حيّ "الاتّجاهات" يقولون: ( إنّ السّعادة الزّوجيّة لتحسد "صباح"و"أحمد" على ما وصلا إليه من سعادة.كان "أحمد" من شدّة يأسه يتوهّم أنّها لم تمت، فيغادر العمل باكرا ليحجز لهما على العشاء طاولة بالمطعم الّذي اعتادا أن يتبادلا فيه الشّوق و لقيمات الطّعام، ثمّ يبتاع لها وردة حمراء تشبه حياءها، و يبالغ في إرسال رسالة قصيرة لهاتفها المصادر من طرف رجال الأمن يقول فيها: ( استعدّي يا حبيبتي لنكون اليوم عروسا الغرام ).. توجعه فجيعته حينما يفتح باب بيتهما المعبّأ بالوجوم و في كلّ ركن ملابسات القضيّة ترسم علامات استفهام مخفيةً ابتسامة لئيمة تغمز عين الحقيقة في خبث., يلقي مفاتيحا من كثرة عددها لا يدري أيفتح بها أقفاص جنونه، أم يكسرها في أقفالها عندما يغلق أفواه النّاس المتراصّة بالمعاني الملغّمة و الكلمات الثّاقبة الّتي نخرت جسده و نهشته كما تنهش الذّئاب فرائسها.
هو الآن ملقى على كرسيّ مغدور لا ظهر له، يقدّم أرجله الأربع المحتمية بسقف التّرقّب لرجل لا وجه له، كأنّ ملامحه سافرت في ألمه فماتت ظمأ و خيبة، أو كأنّها بادرت زوجته بالتّهاوي فافترشتها أرض الجريمة شاهدا على السّقوط المذّبّب بالشّكوك.
يستعيد عينيه الغائرتين في الكآبة بعد فركهما قليلا، ليقلّب صفحات جريدة تعثّرت في إمساكها يده، عنوان بالبند العريض يغرز سهمه بغشاء عقله المخدّر و يقلّب عليه المواجع بعد أن اتّخذت ترتيبا شبه ثانويّ في ذاكرته، كان العنوان طويلا و المقال أيضا، لكنّه استعار طاقة من فضوله و أنهى قراءته كلّه و كأنّه يقرأه للمرّة الأولى.
كُتب في المقال أشياء لم يكن يعي ما هي حتّى أنّه للحظة ظنّ الكلام لا يعنيه و لا زوجته ،إنّما امرأة و رجلا آخران. كان "أحمد" جرّاحا بارعا لا يوسوس الفشل ليديه اللّتان باركتهما عين الإله آهة، لكنّ براعته تلك دفّعته ضريبة باهضة و نصبت له كمينا كان فيه الجاني و المجنيّ عليه بآن واحد.
في ومضة للذّكرى يأتيه صوتها المتماوج: " أحمد .. سينتقم منك.. هو قالها.." ، فجأة يُفصل الخطّ و تُفصل خطوط الذّاكرة معه.. (ربّما كان هو! لا..لا ، بل هو"ابن الكلب" لقد فعلها)
ينهمر الأسف المستحي من عينيه، كان يشكّ في إخلاصها له على الرّغم من معرفته المطلقة بصدقها، يتمنّى أن يغفر لنفسه شناعة الإفك الّذي وجّهه إليها بأصبع جريئ.. أخيرا ترقد روحها بسلام لكنّها لا تذرف دمع الحنين على حبيبها الميّت في ركن الزّاوية المترهّلة بدخان سجائره و رائحة الرّطوبة المنبعثة من أوراق الجرائد المصفرّة الّتي تركتها له لتؤنسه بمغالطاتها و تخفّف من ندمه.. توقّع النّافذة انصراف كبرياء المرأة المغتالة حين تفتح ريح قويّة مفصليها المتراميتين على السّتار الشّاف، و على غفلة منه يستقرّ السّتار و تُغلق النّافذة.
                                 بقلم .. رقيّة شاوش

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق